محاورنا يمتطي خيول ثلاثين رواية راكَمت ْالجوائز وتناولتها الأطروحات الأكاديمية
استنهاض الذاكرة العربية كالعاصفة أو الجنون حال استيقاظها لا يستطيع أحد إيقافها-
-العرب فاشلون في تقديم مشروع سياسي ثقافي حضاري، والكذِب ببلادنا مِن فرْط التكرار صار حقيقة، والأوطان التي تحرمنا الوجود ولا تمنحنا غير الأوهام والأحلام ليست بأوطان
- طال أمد القضية الفلسطينية لأنها قُدِّمتْ سياسياً ولم تُقدَّم إنسانياً كي يشعر بها الآخر
-أرفض تصنيف المبدع تبعاً لانتمائه السياسي؛ أما المثقف فقد بهدلوه؛ وجرَّموه؛ وعزَلوه؛ وقتلوه؛ واليوم يُجهزون عليه
- فشلنا مع القضية الفلسطينية وتحقيق الديمقراطية والحوار مع الآخر
تحديداً في عام 2015 قابلته بمعرض "بيروت الدولي للكتاب"؛ كنتُ بصدد الاحتفاء بتوقيع كتابي الجديد؛ وكان هو مشاركاً في بعض الندوات الثقافية، وتعاقبتْ لقاءاتنا مدة ثلاثة أعوام متتالية بمعرض "أبوظبي الدولي للكتاب"، تحاورنا كثيراً؛ فكان -كما تخيلته من رواياته- رجلاً مهموماً بالوجع الإنساني عامةً والوضع العربي والجزائري خاصةً،لم يكن ذلك بغريب على مَن عاش طفولةً يتيمة لاستشهاد والده أثناء النضال الوطني لبلاده، لذا كثيرٌ مِن مؤلَّفاته تتناول النضال لأجل البقاء، يجاهد بقلمِه البيئات المتخلفة، فلما غدا أديباًيمتطي خيول الكلمات ويُراكِم الجوائزعشقته ثماني لغات عالمية تُرجمت إليها أعماله، وكُتبتْ عنه العديد من الدراسات والأطروحات الجامعية بتونس والجزائر، وحين فشل وطنه في سجن أفكاره غادره إلى فرنسا، لكن المسافات والبحار لم تفصل بينهما،ظل مهموماً بتغييره؛ مُصراً على محاربة الأفكار الرجعية؛ مُوقناً أن العمل الإبداعي نصْلٌ وخَيلُ المُحارب المثقف الواعي لأجل تغيير المستحيل، فصار أحد أهم الأصوات الروائية عربياً وعالمياً؛ اعترف النقاد ببصمته اللافتة على تطور الرواية العربية.
"المشهد" تحاور د."واسيني الأعرج" الروائي والأستاذ الأكاديمي بجامعتي: "السوربون والجزائر"؛ والقاص؛ والناقد؛ والكاتب؛ والمنتج لبعض البرامج الأدبية للتليفزيون الجزائري؛والذي تفرغ تماماً للرواية لإيمانه بالتخصص.
* أسأله بدايةً عن همومه وأوجاعه؛ وكيف يُحدد ملامح شخصيته وأفكاره
- همومي وأفكاري خير توصيف لشخصيتي، أراني مشغولاً بالوجع الإنساني بأشكاله؛ مِن ظُلمٍ إلى تفرقة عنصرية، مُروراً بالفقر والجهل والعادات والتقاليد المُكبِّلة، أنتصِرُ دوماً للقيم الإنسانية النبيلة، أرىالكَذب في بلادنا العربية مِن فَرْط التكرار صار حقيقة، والأوطان التي تحرمنا من الوجود ولا تمنحنا إلا الأوهام والأحلام ليست بأوطان، وتهصُرني الحسرة لأن العرب يقاتلون بعضهم البعض وفشلوا في تقديم مشروعٍ سياسيٍّ ثقافيٍّ حضاريٍّ، والقضية الفلسطينة طال أمدها لأنَّا قدمناهاسياسياً ولم نُقدمها إنسانياً، وأرفض تصنيف وطنيةالمثقف تبعاً لانتمائه السياسي وليسلإبداعه الأدبي،وأطالب المبدعينبألا يدخلوا الصراعات السياسية بل يذهبوا مباشرة لعمق مشاكل مجتمعاتهم ويحللونها، أدعوهم إلى الدخول لغمار تجربة شعوبهم وألا يبقوا وقوفاً على الهامش، وأرى الذاكرة العربية لابد مِن استنهاضها وهذا ما أفعله في رواياتي حين كتبتُ عن النضال الجزائري والكفاح الفلسطيني، ولأنَّ الذاكرة كالعاصفة أو الجنون فإنها حالما تستيقظ لن يستطيع أحد إيقافها، أحزن لوضع المثقف في أوطاننا؛فقد بهدلوه؛ وجرَّموه؛ وعزلوه؛ وقتلوه؛ واليوم يُجهزون عليه.
أما على مستوى العلاقات الإنسانية فأرىالسعادة لا تتطلب سوى بعض الحُبِّ والسَّخاء وقليل مِن الحرِّية، والزواج الذي لا يتحول لصداقة ماتعة يصبح قيداً قاتلاً، والمرأة تنضج برَجل يعِيَها ويحتويها ويصادقها،ولا بأس أحياناً من بعض الخراب والأزمات التي نمر بها لأنها ستقودنا لمعرفة أنفسنا بعمق أكثر، والفَقد لا يعني الخسارة دوماً.
* نَعْرفك دائم الاعتزاز بالفترة التي قضيتها بدمشق؛ نلتَ فيها الماجيستير والدكتوراه؛ فلِمَ؟
- لولا سوريا لظللت أتكلم الفرانكفونية، فقد نهلتُ مِن دمشق استقامة اللغة العربية، وبلاغتها، وإليها يُنسب الفضل، وعانقتُ مقاهيها الثقافية والفنية والشعبية (لاترنا؛ الروضة؛ النَّجمة)على مدى عشر سنوات؛ التقيتُ فيها بقامات السياسة والأدب والشِّعر والفن، وصادقتُ:"نزار وحيدر وأدونيس والماغوط"، في مُناخ أُجزم أنه نادر الوجود في أي دولة عربية أخرى، وأعتبر فترة السبعينيات والثمانينيات هي الفترة الذهبية الإنسانية التي لم تلوثهاأية نزعة طائفية، لكن الحزن يتملكني حين عدت إليها عام 2006 ووجدت كل شئ تغير للأسوأ.
*بين مرافئ الجوائز ومرافئ اللغات أبحرتْ رواياتك الثلاثون؛ فكيف تصِفُ رحلتك؟
- تتهلل أسارير وجهه قائلاً: مكمَنُ التميز في العمل الإبداعي الأدبي القدرة على شد انتباه القارئ منذ العشر صفحات الأولى، وهي مهمة ليست باليسيرة لكنها شائقة تحبس الأنفاس، وتشرع نوافذ الحُلم على عوالم الحكاية الآسِرة، تجعلكِ تهاجرين في الرواية بالمعنى الروحي والإنساني واللغوي،بمعنى أن تجدي نفْسَكِ في عالَم غير عالَمكِ اليومي.
أحمد الله أن روايتي "حارسة الظلال" اُختيرتْ ضمن أفضل خمس روايات أُصدرت بفرنسا؛ وطُبعتْ خمس مرات، "مملكة الفراشة" فازت بجائزة "كتارا" للرواية العربية، "أصابع لوليتا" نالت جائزة الإبداع الأدبي، "البيت الأندلسي" تُوّجَت كأفضل رواية عربية، "كتاب الأمير" حازت على جائزة الشيخ زايد للآدابوعلى لقب: أكثر الكُتب رَواجاً، كما حصلتُ على جائزة الشيخ زايد للكتاب، أما "سوناتا لأشباح القدس" و"ذاكرة الماء"؛ و"طوق الياسمين"؛ و"أنثى السراب"؛ و"الليلة السابعة بعد الألف"؛ و"نساء كازانوفا" و"البيت الأندلسي".. فتلك بعض عناوين رواياتي -التي وصلت لنحو ثلاثين رواية- مكتوبة بالعربية والفرنسية؛ تنتمي للمدرسة التجريبية التجديدية البعيدة عن الأنساق التقليدية في الكتابة، وتم ترجمتها وغيرها للغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية والإيطالية والسويدية والدنماركية والأسبانية والعِبرية، وعنها قُدِّمت العديد من أُطروحات الماجيستير والدكتوراه بالجامعات الجزائرية والتونسية.
* يتضح أدب الثورة أو أدب الحرب بشكل جَليّ في كتاباتك؛ رغم أنك تُردد دوماً أنك لا تحب السياسة؛ فبمَ تُعلق؟
- نحن أبناء سنوات الحروب والدم والإرهاب، ورغم أنِّي لا أحب السياسة إلا أنها صديقتي، والمثقف أوالمبدع عليه أن يتجه بإبداعه للعمق الإنساني، لكل ما هو مشترك بيننا وبين الآخرين، فهذا يؤثر في القارئ وهو الأصدق.. لأن الإنسان في نهاية المطاف ينتصر لقيم الخير، لا أُطالب المبدعبلعب دورٍ سياسيٍّ؛ لكنه يجب أن يُعبِّر عن عصره،ويُقدم رؤية أوسع من الرؤية الضيقة لرجل السياسة، وألا يبقى صامتاً مُنهاراً يتأمل حركة العالَم وهي تختفي، لأن التامل فقط يعني الموت الحَتميّ، أنا مهموم بوطني العربي وكتبتُ؛ وكان الثمن المَنفى أو الحذر!ففي رواية "مملكة الفراشة" تناولت سنوات الدَّم والحرب في الجزائر؛ تلك التي تركتْ جُرحاً نازفاً في عمق الشعب بكافة طوائفه وأحزابه،وفي"ذاكرة الماء" لمستُ اليأس والظُلمة بعدد مِن المدن العربية على مدى عامين بِدءاً من شتاء 1993.
أما مشكلة الثورات فتتمثل في كونها يكتنفها الأسرار، فتقع الذاكرة الجمعية الوطنية بالداخل في وهْمِ الزَّيف والتاريخ الذي يُكتب تبعاً للأهواء، بينما أسرار تلك الثورات تكون مكشوفة للدول الخارجية، لذا فالّسِّيَر الذاتية التي تُكتب بالداخل تَرَبّى مؤلفوها في تلك السِّرية؛ فلا يستطيعون كتابة الحقيقة لأنهم لا يعلمونها، كما أننا في بلاد لا يعترف الأشخاص بالأخطاء، فلسنا مثل تجربة "جنوب إفريقيا" التي اعترفوا فيها بأخطائهم تجاه الشعب؛ ومِن هنا جاء الإصلاح والتطور، والمبدع دورُهُ تثقيفي تنويري؛ وعليه لابد من البحث للوصول للحقائق وتوضيحها وتقديم رؤية أعمق لأجل النهوض بالمجتمع.
* أعلمُ أن كتابة الرواية التاريخية مُجهدة جداً، ويَنتج عنها إشكالية في ذهن المتلقي فيخلط بين التأريخ والإبداع؛ فكيف كان ذلك فيكتاب "الأميرعبد القادر الجزائري"؟
- المسألة فعلاً صعبة لكنها مُغرية، حين نكتشف الكثير، وتتعرف على أشخاص بيننا وبينهم قرون، ونعقد صداقات معهم، فهكذا صادقتُ"الأمير"،أونقيم صراعاً كما فعلتُ مع "لورانس" في رواية "سراب الشرق"، وقد كوَّنتُ علاقات مع قيادات فلسطينية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين.
حين كتبت نضال الأمير أنفقتُ أربع سنواتٍ أجمعُ عنه بالخارج من مختلف المراجع والشهادات والمقابلات لأجل التوثيقحتى أنجزته، وكنتُ حريصاً على الفصل بين شخصية المؤرخ والروائي، فالكاتب ليس مؤرخاً، ولا يجب أن يكون، فالحقيقة التاريخية تأتينا من المؤرخ؛ بينما الروائي يصِف لنا الشخصية بطريقة لا يستطيعها المؤرخ، كأن يُصَوِّره لنا وهو يمارس حياته العادية مع أسرته وأصدقائه مثلاً.
* "سوناتا لأشباح القدس" روايتك التي قلت عنها ذات مرة أنك كتبتها بحواسِّك العَشرة؛ فماذا تقصد؟
- كتبتها لأنِّي أرى القضية الفلسطينية قُدِّمت سياسياً فقط ولم تُقدَّم من بابها الإنساني للعبور إلى إقناع القارئ العالمي، فقد طال أمد القضية وفشلنا في توصيلهاللآخر؛ لأنَّا اكتفينا بالوسائط التقليدية كالخطاب الإيديولوجي والسياسي والوثوقي واليقيني الذي يجسد شخصية الفلسطيني على أنها مُطْلَقة وخارقة للعادة، تماماً كأدب ثورة الجزائر الذي عالج الشخصية الجزائرية بنفس المنطق، ولكن ماذا بقِي من هذا النوع من الأدب؟! هذا هو السؤال الذي يجب طرحه في مثل هذه القضايا، لذاحكيت في روايتي عن "مَيّ" الفلسطينينة التي غادرت أرضها عام 1948 وعمرها ثماني سنوات، وفي ظرفٍ قاهرٍ تغير اسمها وهويتها -تزويراً- لأجل البحث في العالم الحر عن أرضٍ أكثر رحمة وحُباً، فتغدو فنانة تشكيلية بأمريكا، ثم يباغتها سرطان الرئة؛ وتتمنى العودة للقدس مرة أخرى.
* في "البيت الأندلسي" اتَّهمكَ النُّقاد بالتشاؤم لأنك ترى العالم يتجه للهلاك؛ ألا ترى بصيص أمل؟ ولماذا تحديداً هذه الرواية؟
- الرواية تحكي قصة بيت قديم؛ عاش فيه العُشاق والقَتلة معاً، النبلاء والسَّفلة، الأتقياء والخونة، والسُّلطة تريد هدمه وإقامة برجٍ عظيمٍ، ساكن البيت الوحيد المُتبقي من السلالة المنقرضة يرفض فكرة الهدم؛ لأنها في النهاية مَحوٌ للذاكرة الجَمعية والتراث، ويرى أن العودة للتاريخ ضرورة لفهم الحاضر الذي لا يمكن أن ينشأ بشكل فجائي، لكنه لا يعلم يقيناً إن كانت مجتمعاتنا قادرة من خلال الماضي والحاضر على إنتاج رؤية مستقبلية أم لا، والحقيقة أرى أن بلادنا ذاهبة إلى الحائط ومتجهة للهلاك وكذلك العالَم، ولا ندري كيف تكون النهاية، ولا يوجد حوار فاعل بين مختلف الأطراف.
لابد مِن البحث عن إمكاناتنا العربية في الحوار مع الطرف الآخر؛ سِيما وقت الحروب، فالعظماء وحدهم يمتلكون القدرة على المحاورة في الأوقات العصيبة؛ ساعة يأتي رَجل استثنائي فيقول: لا..فالعالَم ليس هكذا، رغم أن الواقع الموضوعي لا يوجد فيه شيء يساعده على أن يقول ذلك؛ لكنه يُراهن على حلم ومستقبل يمكن أن يُوجدا.
لدينا خيبات كثيرة فيما يتعلق بالتحقيق الديمقراطي الذي لم يُنجز في أوطاننا،فرهان التعليم لم ينجح؛ والتعليم هنا بمعنى التكوين؛ أي تأسيس مشروع سياسي ثقافي حضاري لا مجرد فتح مدارس وجامعات جديدة،للأسف كل المشاريع خابت، تارة بفعل الاستعمار، ومرَّة بسبب الانقسامات والثورات والانتفاضاتالتي مزَّقتنا،وقد تجلى ذلك في رواياتي: "حارسة الظلال" و"مرايا الطريق" و"سيدة المقام" وغيرها، وتحديداً فيما يتعلق بالحقبة الإرهابية التي مرَّت بالجزائر.
علينا البحث عن إجابة لسؤال هام: ما سؤالنا كمبدعين عرب؟ وإلا سنُنفى خارج عصرنا وسنخرج منه، أونبقى على الهامش، فالعالَم موضوع داخل سياج؛ والمبدع العربي ممنوع من الدخول، لكنهم يقولون له لابد أن تدخل!! لذا على العربي أن يبذل مجهوداً مُضاعفاً أكثر من غيره ليكسر تلك الأسلاك الوهمية الموضوعة بينه وبين الحضارة ويخترقها ويدخلها، ويقيني أنه يستطيع.
-------------
حاورته في أبو ظبي: حورية عبيدة